رابعاً : ما العجب في تقدير الله تعالى ذلك على سليمان عليه السلام :
إذا علمنا فيما سبق أن هذا الفعل لا يقدح في مقام النبوة؛ فليس في المقام ما يُتعجب منه، فالله تعالى قد أخبر أنه ابتلى الأنبياء في القرآن وعاتبهم: آدم، ونوحاً، وأيوب، وسليمان وغيرهم عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام.
قال تعالى : (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ) [ ص : 34].
وقال : (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) [ص: 41].
وقال : (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ) [ طه:115 ].
وقال : ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) [ هود: 46 ].
وقال لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم : (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) [ التوبة: 43 ].
وقال : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) [ الأنفال : 67].
وقال : (عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ) الآيات [عبس: 1 ـ 3 ].
فما العجب ـ بعدما أخبر الله تعالى عن أنبياءه بذلك ـ أن يَرِدَ تفصيل ذلك في السنة النبوية، والله تعالى يبتلي الأنبياء والمؤمنين كل على قدر إيمانه، قال صلى الله عليه وسلم : "إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"( 50).
وهكذا فليس في الحديث ما يُتعجب منه ويستنكر لأجله، إلا في عقل من أضله اتباع الهوى، وأعماه الجهل عن رؤية الحق، وقد قال تعالى : (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [ القصص: 50 ].
خامساً: أن سليمان عليه السلام لم يستثنِ لحكمةٍ قدرها الله تعالى وليس لأنه قد غفل عن التعلق بالله تعالى:
صَوَّرَ الكردي أن هذا الحديث يطعن في مقام سليمان عليه السلام فقال : " كيف يُذَكَّر نبيٌ عظيم من أنبياء الله تعالى ـ وهو سليمان الحكيم ـ الذي سُمي بذلك لحكمته ورجاحة رأيه، بضرورة الاستثناء بإن شاء الله فيرفض أن يقولها؟!"( 51).
ولذلك فإنه من البدهي أن يقال : ليس في الحديث ما يطعن في ذلكم المقام الكريم للنبي سليمان عليه السلام، ولقد كان ذلك تقديراً من الله عليه لحكمة بينها العلماء، وأنه لم يقل ذلك بلسانه، ولم يغفل قلبه عن ربه .
قال العيني : " قوله (فلم يقل إن شاء الله): فلم يقل سليمان إن شاء الله بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فإنه لا يليق بمنصب النبوة. وإنما هذا كما اتفق لنبينا لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين فوعدهم أن يأتي بالجواب غداً جازماً بما عنده من معرفة الله تعالى، وصدق وعده، في تصديقه وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بها لا عن التفويض بقلبه، فاتفق أن يتأخر الوحي عنه ورمي بما رمي به لأجل ذلك، ثم علمه الله بقوله تعالى: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً ) [ الكهف : 23] فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب"( 52).
ولعل من الحكم في ذلك بيان أهمية تعليق الأمور كلها بمشيئة الله تعالى، وقد أدب الله بذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الجوزي في بيان فضل الاستثناء : " وهذه الكلمة لما أهمل ذكرها سليمان عليه السلام في قوله ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً) لم يحصل له مقصوده. وإذا أطلقت على لسان رجل من يأجوج ومأجوج فقال (غداً يحفر السد إن شاء الله) نفعتهم فقدر على الحفر، فإذا فات مقصود نبي بتركها وحصل مراد كافر بقولها، فليُعرف قدرها، وكيف لا وهي تتضمن إظهار عجز البشرية وتسليم الأمر إلى قدرة الربوبية"( 53).
وبهذا يتبين أن مقام النبوة بعيد كل البعد عن اللمز الذي أراده الكاتب من هذا الحديث، بل هو مقتضى البشرية التي أخبر الله تعالى بها عن أنبياءه، ومقتضى الابتلاء من الله لعباده المؤمنين