الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. وبعد..
وفي هذا البحث المختصر سأقف مع الشبهات التي ذكرها صاحب كتاب ( نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث ).. وذلك لتعلق هذا الحديث بقصة سليمان عليه الصلاة والسلام في القرآن وذكره في بعض كتب التفسير ..نص الحديث :
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله . فلم يقل: إن شاء الله . فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون "(1).
وقد رد المؤلف هذا الحديث ووافقه أحد الكتاب الشيعة(2) فقال الأخير: " وفي هذا أيضاً نظر من وجوه : أحدها: أن القوة البشرية لتضعف عن الطواف بهن في ليلة واحدة مهما كان الإنسان قوياً، فما ذكره أبو هريرة من طواف سليمان (ع) بهن مخالف لنواميس الطبيعة لا يمكن عادة وقوعه أبدا .
ثانيها: أنه لا يجوز على نبي الله تعالى سليمان (ع) أن يترك التعليق على المشيئة، ولا سيما بعد تنبيه الملك إياه إلى ذلك، وما يمنعه من قول إن شاء الله ؟ وهو من الدعاء الى الله والأدلاء عليه، وإنما يتركها الغافلون عن الله عزوجل، الجاهلون بأن الأمور كلها بيده . فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن، وحاشا أنبياء الله عن غفلة الجاهلين أنهم (ع) لفوق ما يظن المخرفون .
ثالثها:أن أبا هريرة قد اضطرب في عدة نساء سليمان، فتارة روى إنهن مائة كما سمعت، وتارة روى إنهن تسعون، وتارة روى إنهن سبعون وتارة روى إنهن ستون "(3).
كلام العلماء في معنى الحديث :
قوله : ( لأطوفن ) :
طاف بالشيء إذا دار حوله وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع.
واللام هنا جواب القسم وهو محذوف، أي : والله لأطوفن . ويؤيده قوله في رواية أخرى : ( لم يحنث ) لأن الحنث لا يكون إلا عن قسم، والقسم لا بد له من مقسم به(4).
قوله : (كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ) :
قاله عليه السلام على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به لأنه غلب عليه الرجاء، لكونه قصد به الخيرَ وأمرَ الآخرة، لا غرض الدنيا(5).
ونقل ابن حجر عن بعض السلف قوله : " نبّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال : ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر"(6 ).
قوله : ( فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله ) :
في رواية معمر عن طاوس : ( فقال له الملك )، وفي رواية هشام بن حجير : ( فقال له صاحبه، قال سفيان : يعني الملك ). قال ابن حجر : " وفي هذا إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في مسند الحميدي عن سفيان : ( فقال له صاحبه أو الملك ) بالشك، ومثلها لمسلم، وفي الجملة ففيه رد على من فسر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب وهو آصف " ثم قال : "قلت : ليس بين قوله ( صاحبه ) و ( الملك ) منافاة، إلا أن لفظة ( صاحبه ) أعم، فمن ثم نشأ لهم الاحتمال، ولكن الشك لا يؤثر في الجزم، فمن جزم بأنه الملك حجة على من لم يجزم"( 7).
قوله : ( فلم يقل ):
قال عياض : " بين في الطريق الأخرى بقوله ( فنسي )"( 8).
ومعنى قوله ( لم يقل ) : أي بلسانه لا أنه أبى أن يفوض إلى الله بل كان ذلك ثابتاً في قلبه، لكنه اكتفى بذلك أولاً ونسي أن يجريه على لسانه لما قيل له لشيء عرض له( 9).
قوله : ( فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ):
توضحه الروايات الأخر وهي : ( إلا واحداً ساقطاً أحد شقيه )، ( ولدت شق غلام )، ( نصف إنسان ).
قوله : ( والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون ):
المراد أنه كان يحصل له ما طلب ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حق سليمان عليه السلام في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجو الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع( 10).
قال ابن حجر : " وفيه جواز السهو على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم"( 11).