إن القراءة العابرة فضلا عن المتأنية للأحداث المؤسفة الجارية على أرض الكنانة حفظها الله من شر الأشرار وكيد الفجار وتهور السفهاء تضعنا أمام حقائق يجب أن نجليها، وثوابت لابد من كشفها، وأسئلة يجب أن نجيب عليها ،فنقول وبالله التوفيق:
أولا: الحرب أولها كلام ، ونار الفتنة أولها شرارة إذا انطلقت لا يعلم سوى الله من يكتوي بنارها وكم من الفساد يخلفها، وفي البخاري: بَاب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
الْحَــــــــــــرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُـــــونُ فَـــتِـــيَّــةً تَسْعَـــى بِزِينــَتِهَـــا لِكُلِّ جَهُــــولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْـطَــــاءَ يُنْــكَرُ لَــوْنُهَــــا وَتَــغَـــيَّرَتْ مَــــكْرُوهَــــةً لِلشَّــــمِّ وَالتَّقْــبــِيــلِ
أي: أن الحرب في أول أمرها تتزين للجهال وتغريهم بزينتها حتى إذا اشتعلت وزاد اشتعالها صارت لا يرغب أحد في تزويجها لأنها صارت عجوزا شمطاء تبدل حسنها قبحا وانبعثت منها رائحة كريهة منتنة تصد عن شمها وتقبيلها، قال الحافظ: والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا، وقال السندي: والمراد أن الحرب تعرض لمن لم يجرّبها حتى يدخل فيها فتهلكه، ثم أسند عن شَقِيق قال: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ إِذْ قَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا قَالَ عُمَرُ أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ عُمَرُ إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْتُ أَجَلْ فباب الفتنة إذا فتح لا يغلق ، وقد فسر عليٌ r الفتنة التي تموج كموج البحر بأنها التي يصبح الناس فيها كالبهائم أي لا عقول لهم، وأخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حذيفة قال: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل، وعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ الْزَمْ بَيْتَكَ وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ.
وقال الشاعر: أَرَى خَلَلَ الرَّمادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ويُوشِكُ أَنْ يكُونَ له ضِرامُ
فإِنْ لَــــمْ يُطْـــفِهِ عُـــقَلاءُ قَـــــــوْمٍ فإِنَّ وَقُـــودَهُ جُـــثَثٌ وهـــــامُ
فإِنَّ الـنَّــــارَ بالعُـــــودَيْنِ تُـــذْكَـــى وإِنَّ الحَـــرْبَ أَوَّلُـهــــا كَــلامُ
الخلل: منفرج ما بين كل شيئين، والوميض :لمعان خفيف وظهور، والضرام الاشتعال، وتُذكي: يشتد لهيبها، وهام : جمع هامة وهي الرأس.وصوت العقل يغيب غالبا بين عصف أعاصير الجنون، وعند احتدام الغضب يتوارى الصواب
والواقع خير شاهد على ذلك.
ثانيا: في مثل هذه الظروف تنصرف الهمم إلى إدمان مطالعة الأخبار، وتداول القيل والقال صدقا كان أو لا، والنفس تميل إلى تصديق أي خبر فيه نيل من خصمها وهنا لا بد من التثبت من الأخبار قبل تداولها والنظر فيما يترتب على نشرها من خير أو شر، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات:6] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - : أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : كَفَى بالمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.[رواه مسلم]، ولا يجوز أن نغرق في طوفان الأخبار، ونتلهى عن واجب الوقت من الفرار إلى الله، والتحصن بحماه، والفزع إلى الصلاة، والاجتهاد في الطاعة، ورفع الأكف إلى الله بالضراعة، فقد كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى.[رواه أبو داود]،وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ثُمَّ يَدْعُو[مسلم وأحمد، واللفظ له] وعن مَعْقِلِ بن يسار - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : العِبَادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ [رواه مسلم]. قال النووي: المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه: أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد. وقال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ قَالَ تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ .[متفق عليه،واللفظ لمسلم]، ولا بد من التكافل والتراحم والترابط والإيثار حتى تمر هذه المحنة على خير،ولا يجوز استغلال الظروف الطارئة لتحقيق مكاسب خاصة ومصالح ذاتية،كما نري من احتكار الأقوات، ورفع الأسعار، وتبوير الأرض الزراعية الخصبة بإقامة المباني عليها..الخ، ولا بد من توبة جماعية لدفع هذا البلاء، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. والنِقَمُ لا تُدفَعُ بالسيوف والثورات، وإنما بالتوبة والإنابة ومزيد الطاعة، فما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
ثالثا: لا شك أن فساد حال المسلمين في بلد ما، سببه فساد الراعي والرعية، وإذا بات معلوما أن الراعي قد يتسبب في إفساد الرعية بما يبثه فيهم من أنظمة مخالفة لشرع رب العالمين، فلنعلم أن فساد الراعي يتسبب فيه فساد الرعية أولا، لأن الله تعالى قال : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }؛ ففساد الراعي متسبب عن فساد الرعية، ولما كان هذا هو الأصل جعل الله تعالى إصلاح الأنفس السبيل الوحيد لإصلاح الراعي والرعية معاً ,قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[الرعد:11]. وكان سيد المصلحين r يفتتح خطبه قائلاً:" ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا"،وعلمنا أن نقول صباحا ومساء: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ.[صحيح سنن الترمذي]، قال العلامة ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوكَ العبادِ وأمراءَهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظَهَرت في صورِ وُلاتِهم وملوكِهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكرُ والخديعةُ فولاتُهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا مِمَّن يَستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم، أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف، يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمَّالُهم ظَهَرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يُوَلَّى على الأشرار الفُجَّار إلا من يكون مِنْ جنسِهم، ولما كان الصدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبرَّها، كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شِيبَت لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبى أن يُوَلِّيَ علينا في مثل هذه الأزمان مثلَ معاويةَ وعمرَ بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكرٍ وعمرَ، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكلٌ من الأمرين موجبُ الحكمةِ ومُقتضاها.اهـ ، وأقول رحم الله الإمام ابن القيم - المتوفى سنة 751هجرية - يقول هذا في زمانه فماذا يقول لو أدرك زماننا ؟!!فلا تَلومَنَّ الرعيةُ إلا نفسها، ولتصلح ذات بينها، ولتقبل على ربها، ولتتق الله في أرض الإسلام وفي دارها، والعلماء يقولون :كما تكونوا يُوَّل عليكم، أعمالكم عمالكم، وما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك. قال عبد الملك بن مروان:" ما أنصفتمونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما".
رابعا: إن العقل والشرع يفرضان علينا قبل أن نخطو أي خطوة، أو نتصرف أي تصرف، أن ننظر في العواقب والمآلات، ونوازن بين المصالح اليقينية والمفاسد، وألا تدفعنا مصالح متوهمة وعواطف جامحة وشهوات طاغية نحو مصير مظلم وفساد عريض ، ومن المعلوم شرعا أنه لا يجوز تغيير المنكر بمنكر مثله فضلاً عن أن يكون أكبر منه، وإهمال هذا الأصل أدى إلى ما جرى في الأيام السالفة من ترويع الآمنين ، وإزهاق الأنفس المعصومة، وإراقة الدماء المحرمة ، ونهب الممتلكات العامة والخاصة، وانتهاك الحرمات، وتعطيل مصالح الناس، وانتشار الفوضى هنا وهناك ، وما سيكون في المستقبل، وقد عرف الناس طريق الثورة ونالوا مرادهم به ؛ والسؤال: من يتحمل تبعات كل هذا ؟ أهؤلاء الشبان الثائرون المتحمسون؟ أم هؤلاء الحزبيون أصحاب المصالح الخاصة والتطلعات الذاتية البعيدة كل البعد عن نصرة دين وإقامة حق ؟ أم من وصف ثورتهم بأنها مباركة ؟ ومن أفتي بأنهم شهداء إن ماتوا في ميدان التحرير ومثله؟ وهنا أقول لهؤلاء، وخصوصا الذين يتكلمون باسم الدين، وبالذات أصحاب المناصب العليا في المؤسسة الدينية الرسمية، ألم تكن هذه المظالم معلومة قبل اليوم ، وهذه المطالب المطروحة التي وصفت على لسان الجميع اليوم بأنها مشروعة؛ ألم تكن مشرعة قبل ذلك ؟ لماذا وأنتم قادة الأمة لم تنكروا هذه المظالم قبل هذه الفتنة؟ ولماذا لم تذهبوا إلى الحاكم وتنصحوه كما أمركم الله ورسوله ؟، والدين النصيحة ، وأنتم أقدر الناس على الوصول إليه والدخول عليه !!وهذا حقه وحق الأمة عليكم ، ورحم الله شيخ الأزهر الأسبق محمد الخضر حسين حيث يقول : فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها في أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مس العلم بقرحة ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة. فلا بد أن نكون على بينةٍ من كتاب ربنا وسنة نبينا في سائر أمورنا لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل، وهو الذي يثبت المرء في الفتن والمحن .
خامسا : من الذي يقود هذه الثورة ، ويقوم بتوجيه الثائرين ؟ إن قلنا ثورة بلا قائد فتلك مصيبة، وإن قلنا يقودها رؤساء الأحزاب، وأرباب الفكر العلماني والليبرالي والديمقراطي و.. فالمصيبة أعظم، وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن أَعْرَابِيا سأل النبي r مَتَى السَّاعَةُ قال : (( إذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) قال : كَيفَ إضَاعَتُهَا ؟ قال : (( إذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) .[رواه البخاري].
وصدق من قال: لا يَصْلُحُ الناسُ فوضى لا سَـراةَ لهم ولا سَــــراةَ إذا جُــهَّالهم ســــادوا
تُهدى الأمورُ بأهلِ الرأيِ ما صَلُحَتْ فــإِن تـــوَّلتْ فــبالأشــــــــرارِ تنقـــادُ
كيفَ الرشـــادُ إِذا ما كــــنتَ فـــي نـفــرٍ لهـــم عـــن الرشـــــدِ أغلالٌ وأقيادُ
والبــيـــتُ لا يُبـْتــنـــى إلَّا عــلـــى عَـــمَـــد ولا عِمــــــادَ إذا لـــم تُرْسَ أوتــــــادُ
فـــإن تَــجـــمَّــع أوتــــــــــــــــــــــادٌ وأعمــــــــدةٌ وساكنٌ أبلغوا الأمرَ الذي كادوا
سادسا: ما هي الشعارات المرفوعة والخطة الموضوعة للإصلاح المدعَى؟ وما مدى ارتباط هذه وتلك بأصول الشرع الحنيف؟ والجواب معلوم: لا شعارات دينية، ولا سبل شرعية، وما عدا ذلك فكل شيء مباح بعد أن سولوا لأنفسهم أن لقمة العيش أهم من الدين، بل لما قال بعض المتظاهرين على استحياء: الإسلام هو الحل قام الناس عليه حتى كادوا أن يفتكوا به كما قالت بعض الناشطات - على حد تعبيرهم - ، وإذا كان الجميع – إلا من رحم الله - لا يريدون دين الله حلا، ولا يقبلون بالديمقراطية بديلا فكلهم ظالمون، والله تعالى ينتصر من الظالم بالظالم ثم ينتصر من كليهما ،كما قال الإمام مالك، وليس لنا أن نقحم أنفسنا في ميدان ليس لنا بأهل إلا بالكلمة الطيبة، والنصيحة الصادقة المخلصة، رضي من رضي ، وسخط من سخط، وإلا فإننا أول وآخر من سيكتوي بنار هذه الديمقراطية والحرية المنادى بها لأنها تصادم ثوابت شرعية لا يمكن أن نحيد أو نتنازل عنها ، فإذا تكلمنا بها وأردنا نشرها، انقلبت الديمقراطية دكتاتورية علينا وحيل بيننا وبين مرادنا ، ومن ثم وجب على أهل الدين والاستقامة أن ينأوا بأنفسهم عن هذه التوجهات المنحرفة والحزبيات البغيضة ، وعليهم أن يُجمعوا أمرهم، ويلتفوا حول علمائهم، ويوحدوا صفهم وكلمتهم، ويحددوا أهدافهم وخطتهم؛ لإصلاح القاعدة العريضة والسواد الأعظم من أبناء الأمة بما يضمن إصلاح القمة، وإن طال الوقت وتضاعف الجهد، والله المستعان وعليه التكلان ، وفي هذا يقول العلامة المصلح عبد الحميد بن باديس: فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها على علم وبصيرة , ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهراً، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ فيه بقومها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإنَّ مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا، أن القائد الذي يقول للأمة: ( أنت مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها ) يجد منها ما لا يجد من يقول لها : (أنت ضالة عن أصول دينك، وإننى أريد هدايتك ) فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها...
ويقول العلامة محمد البشير الإبراهيمي: أوصيكم بالإبتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَم بالشر ناجمها، وهَجَم ليفتك بالخير والعلم هاجمها، وسَجَم – سال - على الوطن بالملح الأجاج ساجمها . إن هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كدراً وفرقه هدرا، فلا الزلال - الماء العذب الصافي- جمع ولا الأرض نفع. ومن هنا أقول: لقد وضع الشرع الحكيم للإصلاح منهجاً قويماً، بحيث لو طُبق الإصلاح وَفْقَ هذا المنهج، لانتشر العدل والأمن والرخاء والطمأنينة والسكينة، وللإصلاح منطلقات وضوابط، ومن أهم منطلقاته الإيمان بالله عز وجل، والتقوى والاتباع، وله أيضاً حقيقة، وهي: منع الظلم والبغي المتفشي في المجتمع بالطرق السليمة الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم – فلنجتهد في إدراك أبعاد هذا المنهج الحكيم وبذل الوسع في تطبيقه لتحقيق الإصلاح المنشود ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كاتب المقالة: فضيلة الشيخ أحمد العيسوي