وضعت مريم العذراء البتول طفلها، وهزت جذع النخلة فتساقط عليها من الجذع الرُّطَب الجنيُّ -الناضج-، فأكلت من الرطب، وشربت من النهر الذي أجراه الله لها في مكان لا نهر فيه، وكان كل ذلك إكراماً من الله لها، وتتابعت خوارق العادات التي رافقت حياتها رضي الله عنها، وحياة ابنها عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولم تجد مريم مكاناً تضع فيه وليدها في المكان الذي نزلت فيه - المتخذ مأوى للرعاة - غير مذود للماشية "معتلف للداوب"، فوضعته فيه، وكان ذلك سرير طفولته عند الوضع عليه السلام.
قالوا: وكان ميلاد عيسى عليه السلام يوم الثلاثاء (24) من كانون الأول.
5- حملت مريم وليدها الصغير، وأتت به إلى قومها تحمله، وجرى بينها وبين قومها ما قصه علينا القرآن المجيد -:
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27].
أي: جئت شيئاً بدعاً من الإِثم. أو جئت شيئاً عجيباً من أحداث الدهر.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28].
وأخذوا - على فسقهم وضلالاتهم الخاصة - يقولون عن مريم بهتاناً عظيماً.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}، لائذة بالصمت، ناذرة للرحمن صوماً عن الكلام، أشارت إلى طفلها الصغير، ليجيبهم عنها ويبرئ ساحتها مما اتهموها به.
{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}! [مريم: 29].
فإذا بالصبي الصغير - المسيح عيسى عليه السلام - يُنطِقه الله، ليثبت براءة أمه، ويعلن عن نبوته الآتية، ورسالته المقبلة، ويدلُّهم على أن مَنْ خَرق العادة فأنطقه في طفولته، قادر على أن يخرق العادة فيخلقه في رحم أمّه دون أن يمسها بشر.
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } [مريم: 30-33].
وكان عيسى بن مريم وأمُّه آية من آيات الله للعالمين.
6- قالوا: ولمَّا بلغ الطفل من العمر ثمانية أيام، حملته أمه مريم إلى الهيكل فخُتِن، وسمَّته عيسى (يسوع) كما أمرها جبريل حين بشرها به.
والختان من سنن الفطرة، وشريعة إبراهيم عليه السلام، كما أنه من شريعة سائر الأنبياء والمرسلين من بعد إبراهيم عليه السلام.
7- ونشأ عيسى عليه السلام في كنف أمه بعيدَيْن عن بيت لحم، في ربوة -بلدة مرتفعة- ذات استقرار وأمن، وماء معين.
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].
الربوة: المكان المرتفع. ذات قرار: ذات استقرار وأمن. معين: ماء طاهر صاف.
أما المراد من الربوة التي أشار إليها القرآن الكريم، فقد ذكر المفسرون فيه أربعة أقوال:
القول الأول: أن المراد بالربوة دمشق. وهذا القول مروي عن ابن عباس والحسن. كما رواه ابن عساكر وغيره.
القول الثاني: أن المراد بها الرملة من فلسطين.
القول الثالث: أن المراد بها بيت المقدس.
القول الرابع: أن المراد بها مصر.
وهذا القول يوافق ما جاء في إنجيل "متى" وإنجيل "برنابا" في قصة أورداها تتلخص: بأن هيرودس أمر بقتل كل طفل في بيت لحم، فأُمر يوسف النجار في منامه بأن يذهب بالطفل وأمه إلى مصر، فذهب بهما إليها، وأقاموا بها إلى أن هلك هيرودس، ولما هلك هذا الحاكم أُمر يوسف النجار في منامه أن يعود بالطفل وأمه إلى بلادهما، لأن اللذين كانوا يطلبون قتله قد هلكوا، فرجع بهما.
وكان عيسى حينئذٍ قد بلغ من العمر سبع سنين، وجاء بهما إلى اليهودية حيث سمع أن أرخيلاوس بن هيرودس هو الذي صار حاكماً في اليهودية، فذهب إلى الجليل لأنه خاف أن يبقى في اليهودية، وكانت إقامتهم في الناصرة، ونما في النعمة والحكمة أمام الله والناس. وإلى الناصرة ينسب النصارى.
8- قالوا: ولمَّا بلغ عيسى عليه السلام اثنتي عشرة سنة من العمر، صعد مع أمه مريم وابن عمها يوسف النجار إلى أورشليم (بيت المقدس)، ليسجد هناك حسب شريعة الرب المكتوبة في كتاب موسى عليه السلام، ولما تمت صلواته تفقدوه فلم يجدوه، فانصرفوا إلى محل إقامتهم، ظانين أنه عاد مع أقربائهم، ولما وصلوا عائدين لم يجدوه، أيضاً، فرجعت أمه مع ابن عمها يوسف النجار إلى (أورشليم) ينشدانه بين الأقرباء والجيران، فلم يجدوه، وفي اليوم الثالث وجدوا الصبي عيسى في الهيكل وسط العلماء يحاجُّهم في أمر الناموس، وقد أُعجب كل الناس بأسئلته وأجوبته، وقالوا: كيف أُوتي مثل هذا العلم وهو حَدَث ولم يتعلم القراءة؟!
فلما رأته أمه مريم عنَّفته قائلة: يا بني ماذا فعلت بنا؟ فأجابها: "أَلاَ تعلمين أن خدمة الله يجب أن تقدم على الأم والأب"!! ثم نزل عيسى مع أمه وابن عمها يوسف النجار إلى الناصرة، قائماً بواجب البر والطاعة.
ويسكت التاريخ عما وراء هذه المرحلة من حياة عيسى عليه السلام، حتى بدأت نبوته ورسالته.
9- قالوا: ولما بلغ المسيح عيسى عليه السلام من العمر ثلاثين عاماً، جاء إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام، واعتمد منه في الأردن، ثم نزل عليه روح القدس -جبريل عليه السلام- مثل حمامةٍ، ثم إنه بعد ذلك خرج إلى البرية، وصام فيها أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب.
قالوا: ولمّا علم المسيح عيسى عليه السلام بمقتل يحيى عليه السلام، جاء إلى الجليل وترك الناصرة، وسكن كفر ناحوم، وكان يعظ ببشارة ملكوت الله.
ونزل عليه الوحي بكتاب الله الإِنجيل، وبأحكام من الشريعة. قال الله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
ومنذ ذلك الحين بدأت رسالة عيسى عليه السلام، وكان قد بلغ من العمر ثلاثين عاماً.
10- وسار المسيح عليه السلام يدعو إلى الله بمثل دعوة الرسل، في مجتمع يهودي كثر فيه اليهود الخارجين عن دين الله وهم يزعمون أنهم على شريعة موسى، فيه انحرافات كثيرة عن الشريعة الربانية التي أنزلها الله على موسى، وأكدها الأنبياء والرسل الذين تتابعوا بعده من بني إسرائيل، كما دخلت إلى شريعتهم تحريفات كثيرة مسّت أصولها ونصوصها، وشروحها وأحكامها.
وأهاب عيسى ببني إسرائيل أن يرجعوا إلى دين الله ويخلصوا له في العبادة، ويصححوا ما دخل إلى شريعتهم من تحريفٍ وتبديل، وقام يبلغهم أوامر الله ونواهيه كما كلفه الله، ويبلغهم ما أُنزل عليه من أحكامٍ تشريعيةٍ جديدةٍ، ومنها تحليل بعض ما كان محرماً عليهم في شريعة الله التي أنزلها على موسى عليه السلام والرسل من بعده، من الأحكام التي عقوبة أنزلت بسبب ظلمهم. قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160-161].
وقال الله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 50-51].
وأجرى الله على يد عيسى بن مريم المعجزات الباهرات تصديقاً لنبوته، وتأييداً لرسالته، كما سبق في مبحث معجزاته صلوات الله عليه.
واصطدم عيسى عليه السلام في دعوته بجدال (الصدوقيين)، وكانوا فرقة من اليهود تنكر اليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، فأفحمهم بالحجة.
كما اصطدم عليه السلام بجدال الرؤساء الدينيين اليهود، المنحرفين في مفاهيمهم الدينية عن أصول الشريعة الربانية، وفي تطبيقاتهم العملية عن السلوك السوي، وهم يرتدون في مظاهرهم مسوح الرِّياء. فحاجّ عليه السلام الفريسيين "وهم المنقطعون للعبادة"، والكتبة "وهم الوعّاظ وكتّاب الشريعة لمن يطلبها، "والكهنة" وهم خدمة الهيكل، وكانت حججه عليه السلام دامغة لهم، وكانت حججهم داحضة.
11- وصدّق عيسى عليه السلام طائفةٌ من بني إسرائيل، وكذّبه الأكثرون، وكان مِن ضمن مَنْ صدَّقه ولازمه: الحواريُّون (وهم أصحابه وتلاميذه المرافقون له)، وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم:
1- أندراوس 2- بطرس الصياد (سمعان) 3- متى العشار 4- يوحنا بن زبدي 5- يعقوب بن زبدي 6- يهوذا 7- برثولماوس 8- فيلبس 9- يعقوب بن حلفي10- يهوذا الأسخريوطي.
وأما الحادي عشر فقد أوردهما (برنابا) كما يلي: برنابا و "تداوس".
لكن (متى) أوردهما كما يلي: "توما" و "سمعان الغيور المعروف بالقانوني". والكنيسة على هذا الرأي الثاني، ويظهر أن اسمي "برنابا" و "تداوس" قد حُذفا من الحواريين الاثني عشر، لمخالفة ما عندهما لما اتفقت عليه المجامع الكنيسة مؤخراً. والله أعلم.
ولبث عيسى عليه السلام يجاهر بدعوته، ويجادل المنحرفين من كهنة وكتبة وفريسيين، ويدلهم على الله، ويأمرهم بالاستقامة، ويبين فساد طريقتهم، ويفضح رياءهم وخبثهم، حتى ضاقوا به ذرعاً.
فاجتمع عظماء اليهود وأحبارهم فقالوا: إنَّا نخاف أن يفسد علينا ديننا، ويتبعه الناس، فقال لهم قيافا - رئيس الكهنة -: لأَنْ يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره، فأجمعوا على قتله، فَسَعَوا به لدى الحاكم الروماني، وزينوا له شكواهم منه، وربما صوّروا له دعوة عيسى الدينية بصورةٍ سياسيةٍ تريد تقويض الحكم القائم! وزعموا له أن عيسى يسعى لأن يكون ملكاً على اليهود، وينادي بذلك! وما زالوا بالحاكم حتى حملوه على أن يقرر أن يتخلص من عيسى عليه السلام بقتله وصلبه، على طريقتهم التي كانوا يفعلونها فيمن يحكمون عليه بالقتل!!
وعلم عيسى عليه السلام بمكر القوم به، وعزم الحاكم على قتله، فاختفى عن أعين الرقباء، حتى لا يعرف مكان وجوده أعوان الحاكم فيقبضوا عليه، ولا أعداؤه من اليهود فيدلوا عليه.
12- قالوا: ودخل المسيح إلى أورشليم على حمار، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، فقال المسيح لأصحابه: إن بعضكم ممن يأكل ويشرب معي يسلمني.