الشيخ الشرقاوي
مازل الأزهر الشريف يُخرج العلماء والمصلحين
كان ولا يزال للعالِم المسلم دورٌ كبيرٌ في حياة الأمة؛ حيث ما فتئ علماء الدين المسلمين عبر تاريخ الدعوة الطويل يلعبون دورَهم في إصلاح الدين والدنيا بين الحاكم والرعية، مع التمسك بأهداب العدالة وكلمة الحق ومواقفه، أيًّا كانت المشكلات والمصاعب التي تعترض سبيل الإصلاح والدعوة.
وكان الأزهر الشريف ورجاله دومًا يقفون على قمة هرم الدعوة والإصلاح في مصر والعالم العربي والإسلامي مهما مرت به رياح السلطان العاتية على هذه المؤسسة العريقة على النحو الذي تعاني منه في الوقت الراهن.
ومن بين هؤلاء العلماء الشيخ الشرقاوي، الذي كانت سيرته ومسيرته دومًا- عبر السنوات الطويلة التي مرت على رحيله في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي- نبراسًا هاديًا ونموذجًا فعَّالاً لعالم الدين والداعية إذ يعلي من شأن الدين وينشر كلمة الحق في كافة أرجاء الدنيا وإذ يتصدى لظلم الحاكم.
من هو الشيخ الشرقاوي؟
هو عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي من مواليد قرية الطويلة في بلبيس بمحافظة الشرقية، ومن ثم جاءت كنيته بـ"الشرقاوي"، وُلِد الشيخ الشرقاوي 1150هـ/ 1737م، ودرس وتعلم القرآن الكريم وحفظه في قرية القرين، ثم ارتحل إلى القاهرة حيث أكمل دراسة العلم الشرعي في الأزهر الشريف، وتعلم على أيدي عدد من كبار مشاهير الفقهاء في عصره، مثل الإمام الدمنهوري والشهاب الصعيدي.
عُرف عنه الزهد والتصوف والتقشُّف في متاع الدنيا حتى بعد أن تولى مشيخة الأزهر الشريف بعد وفاة الشيخ العروسي في عام 1801م/ 1218هـ ليكون هو الشيخ أو الإمام الأكبر الثاني عشر للأزهر الشريف، واستمر على زهده هذا في الدنيا حتى توفي رحمه الله في 2 من شوال 1227هـ الموافق 19 أكتوبر 1812م وخلال السنوات التسع التي قضاها في مشيخة الأزهر تعرضت مصر للعديد من المحن والأحداث المهمة التي كان للشيخ الراحل دوره في الدفاع فيها عن المظلومين وعامة الناس من ظلم السلطة.
دافع عن المظلومين في وجه استبداد السلطة
لم يقتصر دور الشيخ الشرقاوي في الإصلاح والدفاع عن المظلومين على الفترة التي قضاها في مشيخة الأزهر، بل كان طيلة حياته العملية يقوم بهذا الدور في تحدي السلطة الظالمة لمصلحة المواطن المظلوم، وفي هذا الصدد يحضرنا الموقف الخاص بأهالي مدينة بلبيس- مسقط رأس شيخنا الكريم- عندما حضروا إليه يشكون له من محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك ممن حكموا مصر قبيل مَقدِم الثورة الفرنسية على مصر، وكان ذلك تحديدًا في عام 1795م؛ حيث كان الألفي قد أرسل عمالَه إليهم يطلبون منهم ضرائب جديدة، مهددًا إياهم بسوء المعاملة والتنكيل بهم إذا لم يعطوه ما طلبه من أموال.
فقاد الشيخ الشرقاوي إضرابًا كبيرًا بالتعاون مع الأهالي والتجار والفلاحين، واجتمع بهم جميعًا مما أثار مخاوف الوالي الألفي وعدد من أمرائه الإقطاعيين ومن بينهم إبراهيم بك ومراد بك، ولم يتراجع الشيخ عن موقفه حتى تعهَّد أمراء المماليك برفع الظلم وإقامة الشرع وإبطال المكوس والضرائب.
وهنا وكما يقول الكاتب والمؤرخ المصري الدكتور إسماعيل إبراهيم في كتابه الضافي "شيوخ ضد السلطة والسلطان" (القاهرة: دارة الكرز- الطبعة الأولى 2004م- ص 82- 84): صمم الشيخ الشرقاوي على أن تكون استجابتهم كتابةً ويوقِّع عليها أمراء المماليك؛ حتى لا ينكصوا عهدهم مع الفلاحين المصريين مرةً أخرى، وتم تحرير الوثيقة التي عُرفت باسم "الشرطة" وقد وقَّع الوالي محمد بك الألفي على هذه الوثيقة ثم ختمها مراد بك، وكان من أهم بنودها:
- لا تُفرض ضريبةٌ جديدةٌ إلا إذا أقرَّها الشعب.
- أن ينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم.
- ألا تمتد يد ذوي السلطان إلى أفراد الشعب إلا بالحق والشرع.
وبعد أن خرجت الحملة الفرنسية من مصر بعد مقاومة كبرى قادها رجال الأزهر وعلى رأسهم الشيخ الشرقاوي والشيخ العريشي- اللذان اتُّهِما من جانب نابليون بونابرت بالضلوع في عملية اغتيال القائد الفرنسي الجنرال كليبر عام 1800 على يد الطالب الأزهري السوري سليمان الحلبي- قاد الشيخ الشرقاوي ثورةً ضمت آلاف المواطنين المصريين من مختلف الحرف والطوائف لإسقاط خورشيد باشا، بعد أن تعددت مظالم الناس منه ومن ممارسات جنوده في الأسواق والشوارع (فرق الدلاة والأكراد والأرناؤط والإنكشارية العثمانية التي جلبها خورشيد باشا معه)، ونجح الشيخ الشرقاوي في ذلك، وتم تعيين محمد علي الكبير واليًا على مصر في عام 1805م؛ حيث بزغ نجم آخر في ذلك الوقت وهو السيد عمر مكرم نقيب الأشراف.
وقد تعاون الشرقاوي ومكرم وعلماء الدين الآخرون في مصر على حفز الناس على مقاومة الغزو الإنجليزي على مصر في عام 1807م، والذي يُعرف تاريخيًّا باسم "حملة فريزر" نسبةً إلى قائد الأسطول البريطاني الغازي في ذلك الوقت.
ومات الشيخ الشرقاوي رحمه الله في عام 1812م/1227هـ بعد حياة حافلة بالجهاد ضد الظلم والاستعمار ضاربًا أروع أمثلة الفداء وأبرز نموذج لرجل الدين عندما يقف في وجه الظلم
ومن أهم آثاره- رحمه الله- "التحفة البهية في الطبقات الشافعية" و"الجواهر السنية على العقائد المشرقية" و"العقائد المشرقية في التوحيد" و"تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من السلاطين".