نعيش اليوم مع رجل متعدد المواهب، شديد الحب لله ورسوله، دائم الذكر والإخبات لرب العالمين، إنه عبد الله بن رَواحة بن ثعلبة، كان يكنى أبا محمد، وهو ممن شهد العقبة، وشهد بدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعده، فإنه كان قد استشهد قبله، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وهو خال النعمان بن بشير.
قال ابن الأثير أن عبد الله بن رواحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فسمعه يقول: “اجلسوا” فجلس مكانه خارجاً من المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: “زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله”.
وكان عبد الله أول خارج إلى الغزو وآخر قافل - راجع - وكان من الشعراء الذين يناضلون عن رسول الله، ومن شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
إني تفرّست فيك الخير أعرفه
والله يعلم أن ما خانني البصرُ
أنت النبي ومن يحرم شفاعته
يوم الحساب فقد أزرى به القدرُ
فثبّت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “وأنت ؟ فثبتك الله يا ابن رواحة” قال هشام بن عروة فثبته الله أحسن الثبات، فقتل شهيداً، وفتحت له أبواب الجنة فدخلها شهيداً.
قال أبو الدرداء: أعوذ بالله أن يأتي علي يوم، لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب بين ثديي، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفي ثم يقول: يا عويمر، اجلس فلنؤمن ساعة، فنجلس، فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان.
شهيد مؤتة
قال ابن إسحاق، عن عروة بن الزبير قال: أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس يوم مؤتة زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بي أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم.
فتجهز الناس وتهيأوا للخروج، فودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، وودعوا عبد الله بن رواحة فبكى، قالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال: أنا والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: “وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا”، “مريم 71” فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردّكم إلينا صالحين ودفع عنكم - لكنه كان يطلب الشهادة لا العودة - فقال ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً
وضربة ذات فرغ يقذف الزبَدا
أو طعنةٌ بيدي حرّان مجهزةٌ
بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مرّوا على جَدثي
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم حتى نزلوا “معان” فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة، فأقاموا بمعان يومين، وقالوا: نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بكثرة عدونا، فإما أن يمدّنا، وإما أن يأمرنا أمراً، فشجّعهم عبد الله بن رواحة، فساروا وهم ثلاثة آلاف حتى لحقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء، يقال لها: مشارف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة.
وروى عبد السلام بن النعمان بن بشير: أن زيداً وجعفر بن أبي طالب حين قُتلا دعا الناس عبد الله بن رواحة، وهو في جانب العسكر، فتقدم فقاتل: وقال يخاطب نفسه ويشجعها:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
يعني زيداً وجعفراً، ثم قال:
يا نفس ما لك تكرهين الجنة؟
أقسم بالله لتنزلنه
طائعةً أو لتكرهنّه
فطالما قد كنت مطمئنّه
سرير من ذهب
وروى مصعب بن شيبة قال: لما نزل ابن رواحة للقتال طُعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه، ثم صُرع بين الصفين فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبّوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
حدث ابن إسحاق قال: لما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أخذ زيد بن حارثة الراية فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل شهيداً” ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال: “ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا لي في الجنة على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عمّ هذا ؟ فقيل لي: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد، ثم مضى فقتل”.
هذا ابن رواحة، لم يكن شاعرا رقيقا فحسب، بل كان مغوارا يتمنى الشهادة، وكان إيمانه العميق هو الباعث القوي لثباته أمام مائتي ألف، والمدد الدافق لشجاعته، فالأعداء لا حظ لهم من مهابة إذا تمكن الإيمان من القلب واستقر في أعماق صاحبه.
منقول من جريدة الخليج